فصل: فصل في القوى التي تصل السائر إلى مقصد إلى مقصوده:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.فصل في القوى التي تصل السائر إلى مقصد إلى مقصوده:

قاعدة: السائر إلى الله والدار الآخرة بل كُلّ سائر إلى مقصد لا يتم سيره ولا يصل إلى مقصوده إِلا بقوتين – قوة علمية – وقوة عملية – فبالقوة العلمية يبصر منازل الطَرِيق ومواضع السلوك فيقصدها سائراً فيها ويجتنب أسباب الهلاك ومواضع العطب وطرق المهالك المنحرفة عن الطَرِيق الموصل.
فقوته العلمية كنور عَظِيم بيده يمشي في ليلة عظيمة مظلمة شديدة الظلمة فهو يبصر بذَلِكَ النور ما يقع الماشي في الظلمة في مثله من الوهاد والمتآلف ويعثر به من الأحجار والشوك وغيره ويبصر بذَلِكَ النور أيضاً أعلام الطَرِيق وأداتها المنصوبة عَلَيْهَا فلا يضل عَنْهَا فيكشف له النور عن الأمرين أَعْلاَمِ الطَرِيقِ وَمَعاطِبِها وبالقُوّةِ العَمَلِيّةِ يَسِيْرُ حَقِيْقَةً بَلِ السَّيْرُ هُوَ حَقِيقَةُ القُوَّةِ العَلَميّةِ فَإِنَّ السَّيْرَ هُوَ عَمَلُ المُسَافِرِ وكَذَلِكَ السَائِرُ إِلى رَبَّهِ إِذَا أبْصَرَ الطَرِيقَ وأعْلامَهَا وأبْصَرَ المَغَابِرَ والوِهَادَ والطُّرُقَ النّاكِبَةَ عَنْهَا فقَدْ حَصَلَ لَهُ شَطْرُ السّعادَةِ والفَلاحِ وَبقِيَ عَلَيْهِ الشّطْرُ الآخَرُ وَهُوَ أنْ يَضَعَ عَصاهُ عَلَى عَاتِقِهِ ويُشَمِّرَ مسافِراً فِي الطَّرِيقِ قَاطِعاً مَنَازِلَهَا بَعْدَ مَنْزِلَةٍ فَكُلَّمَا قَطَعَ مَرْحَلَةً اسْتَعَدَّ لِقَطْعِ الأُخْرَى وَاسْتَشْعَرَ القُرْبَ مِنَ المَنْزِلِ فَهانَ عَلَيْهِ مشَقّةُ السَّفَرِ.
وَكُلَّمَا سَكَنَتْ نَفْسُهُ مِنْ كَلاَلِ السَّيْرِ ومُواصَلَةِ الشَّدِّ والرَّحِيلِ وَعَدها قُرْبُ التّلاقي وبَرْدُ العَيْشِ عَنْدَ الوُصُولِ فَيُحْدِثُ لَهَا ذَلِكَ نَشاطاً وَفَرَحاً وهِمَّةً فَهُو يَقُولُ: يَا نَفْسُ أبْشِرِي فَقَدْ قَرُبَ المَنْزِلُ وَدَنَا التّلاقِي فَلا تَنْقطِعِي فِي الطّرِيقِ دُونَ الوُصُولِ فَيُحَالَ بَيْنَكِ وَبَيْنَ مَنَازِلِ الأحِبَّةِ.
فإن صبرت وواصلت المسري وصلت حميدة مسرورة جذلة وتلقتك الأحبة بأنواع التحف والكرامَاتَ ولَيْسَ بينك وبين ذَلِكَ إِلا صبر ساعة فإن الدُّنْيَا كُلّهَا كساعة من ساعات الآخرة وعمرك درجة من درج تلك الساعة فالله الله لا تنقطعي في المفازة فهو وَاللهِ الهلاك والعطب لو كنت تعلمين.
فإن استصعب عَلَيْهِ فليذكرها ما أمامها من أحبائها وما لديهم من الإكرام والإنعام وما خلفها من أعدائها وما لديهم من الإهانة والْعَذَاب وأنواع البَلاء فإن رجعت فإلي أعدائها رجوعها وإن تقدمت فإلي أحبائها مصيرها وإن وقفت في طريقها أدركها أعداؤها فَإِنَّهُمْ وراءها في الطلب ولابد لها من قسم من هذه الأقسام الثلاثة فلتختر أيها شاءت انتهي.
تَراهُمْ وأَمْلاَكُ الرِّضَا يَقْدُمُونَهِمْ ** إِلى جَنَّةٍ طَابَتْ وَطَابَ نَعِيمُهَا

يَسِيْرُوْنَ فِي أَمْنٍ إِذَا الخَلْقُ فُزَّعٌ ** وَقَدْ بَرَزَتْ نَارٌ وَشَبَّ جَحِيْمُهَا

آخر:
فَلِلّهِ كَمْ مِنْ خَيْرةٍ قَدْ تَهَيَّئَتْ ** لِقَوْمٍ عَلَى الأَقْدَامِ بِاللَّيْلِ قُوَّمُ

يُنَاجُوْنَ رَبَّ العَالَمِيْنَ إلهَهُمْ ** فَتَسْرِي هُمُوْمُ القَوْمِ وَالنَّاسُ نُوَّمُ

آخر:
وللهِ ألْطافٌ بَطيِّ قَضَائِهِ ** أَخُو الفَهْمِ فِي أسْرَارِهَا يَتَفَهَّمُ

فَمُوْسَى بِقَذْفِ الْيَمِّ تَمَّ عُلُوُّهُ ** ترَقَّى إِلى أعْلَى الذُرَى وَهُوَ مُكْرَمُ

ويُوْسُفُ بَعْدَ الجُبِّ والسّجْنِ حُقْبَةً ** حَوَى المُلْكَ وَهُوَ المُسْتَفادُ المُعَظَّمُ

وبِالصَّبْرِ والتَّقْوَى تُنَالُ هِبَاتُهُ ** وأتْقَى الوَرَى عِنْدَ المُهَيْمِنِ أكْرَمُ

وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ:
السنة شجرة والشهور فروعها والأيام أغصانها والساعات أوراقها والأنفاس ثمرها فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرة شجرته طيبة ومن كانت في معصية فثمرته حنظِلّ وإنما يكون الجداد يوم المعاد فعَنْدَ ذَلِكَ يتبين حلو الثمار من مرها.
والإخلاص والتَّوْحِيد شجرة في الْقَلْب فروعها الأعمال وثمره طيب الحياة في الدُّنْيَا والنَّعِيم الْمُقِيم في الآخرة وكما أن ثمار الْجَنَّة لا مقطوعة ولا ممنوعة فثمرة التَّوْحِيد والإخلاص في الدُّنْيَا كَذَلِكَ.
والشرك والكذب والرياء شجرة في الْقَلْب ثمرها في الدُّنْيَا الخوف والهم والغم وضيق الصدر وظلمة الْقَلْب وثمرها في الآخرة الزقوم والْعَذَاب الأليم وقَدْ ذكر هاتين الشجرتين في سورة إبراهيم.
وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: اِشْتَرِ نَفْسَكَ فَالسُّوقُ قَائِمَةٌ والثَّمَنُ مَوْجُودٌ وَلابُدَّ مِنْ سِنَةِ الغََفْلَةِ وَرُقادِ الهَوَى ولَكِنْ كُنْ خَفِيْفَ النَّوْمِ فَحُرَّاسُ البَلَدِ يَصْحُونَ دَنَا الصَّبَاحُ نُورُ العَقْلِ يُضِيءُ فِي لَيْلِ الهَوَى فَتَلُوحُ جَادَةُ الصَّوَابِ فَيَتَلَّمحُ البَصِيْرُ فِي ذَلِكَ النُّوْرِ عَوَاقِبَ الأُمورِ اُخْرُجْ بالعَزْمِ مِنْ هَذَا الفِنَاءِ الضّيّقِ المَحْشُوَّ بالآفاتِ إِلى ذَلِكَ الفِنَاءِ الرَّحْبِ الَّذِي فِيهِ مَا لاَ عَيْنٌ رأتْ وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ.
فَهُنَاك لاَ يَتَعَذّرُ مَطلوبٌ وَلاَ يٌفْقَدُ محبُوبٌ يَا بَائِعَاً نَفْسَهُ بِهَوَى مَنْ حُبُّهُ ضَنَاً وَوَصْلُهُ أذَى وحُسْنُهُ إِلى فَنَاءِ لَقَدْ بِعْتَ أنْفَسَ الأَشْيَاءِ بِثَمَنٍ بَخْسٍ كأنّكَ لَمْ تَعْرِفْ قَدْرَ السِّلعَةِ حَتّى إِذَا قَدَمْتَ يَوْمَ التَّغَابُنْ تَبَيَّنَ لَكَ الغَبْنُ فِي عَقَدِ التّبايُعِ لاَ إِلهَ إِلاَ اللهُ سِلْعَة اللهُ مُشْتَريها، وثَمَنُهَا الجَنّةُ.
اللَّهُمَّ ثبتنا علي قولك الثابت في الحياة الدُّنْيَا وفي الآخرة اللَّهُمَّ وأيدنا بنصرك وارزقنا من فضلك ونجنا من عذابك يوم تبعث عبادك، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المسلمين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى وسَلم.
كَرِهْتُ وَعَلاَّمِ الغُيوبِ حَيَاتِي ** وأَصْبَحْتُ أَرجْو أنْ تَحينَ وَفَاتي

فَشَا السُوءُ إِلا فِي القَلْيلِ مِنَ الوَرَى ** وَخَاضُوا بِحَارَ اللهْوِ والشَّهَواتِ

وضَاعَتْ لَدَيْهِمْ حُرْمَةُ الدِّينِ واغْتَدَتْ ** نُفُوسُهُمُوْا فِي الفِسْقِ مُنْغَمِسَاتِ

وَقَدْ فَسَدَتْ أَخْلاقُهُمْ وَتَغَّيرتْ ** وأضْحَتْ خِلالُ الخِزْيِ مُنْتَشِرَاتِ

وَسَارَ الخَنَا فِيْهِمْ فلَسْتُ أرَي سِوَى ** كَتَائِبِ فُسَّاقٍ وجًمْعَ طُغَاةِ

فمِنْهُمْ كَذُوْبٌ فِي الوِدَادِ مُخَادِعٌ ** أرَاهُ صَدِيقِي وَهُوَ رأْسُ عُدَاتِي

يُقابِلُنِي بِالبِشْرِ واللُطْفِ عِنْدَمَا ** يَرَانِي ويَدْعُو لِيْ بِطُولِ حَيَاتِي

وإِنْ غِبْتُ عَنْهُ سَبَّنْي وأَهَانَني ** وَعَدَّ عُيُوبي للوَرَى وَهَنَاتِي

وَمِنْهُمْ شَقِيٌ هَمُّهُ الفِسْقُ والزِنَا ** وَلَوْ كَانَ عُقْبَاهُ إِلى الهَلَكَاتِ

تُلاقِيهِ يَجْرِي خَلْفَ مُسْلِمَةٍ بِلاَ ** حَيَاءٍ وَلاَ خَوْفٍ مِنَ اللعَنَات

كَأنْ لَمْ يُفَكِّرْ أنَّ تِلْكَ كَأخْتِهِ ** فَيَغْمِزُهَا لِلْحَظِ والغَمَزَاتِ

وَيُبْدِي لَهَا الإِعْجَابَ غِشَّاً وَخِدْعَةً ** ولَمْ يَرْعَ حقَّ اللهِ فِي الحُرُمَاتِ

وآخَرُ أَمْسَى لِلْعُقَارِ مُعَاقِراًً ** وأَصْبَحَ فِي خَبْلٍ وفِي سَكَرَاتِ

تَرَاهُ إِذَا مَا أَسْدَلَ اللّيلُ سِتْرَهُ ** عَلَيْهِ وَوَافِيَ بَادِيَ الظُلُمَاتِ

يُدِيْرُ ابْنةَ العُنْقُودِ بَيْنَ صِحَابِهِ ** ويَطْرَبُ بَيْنَ الكَأْسِ والنَغَمَاتِ

وَقَدْ أَغْفَلَ المِسْكِيْنُ ذِكْرَ مَمَاتِهِ ** وَمَا سَيُلاقِي مِنْ جَوَى النَّزَعَاتِ

يَتِيْهُ عَلَى كُلِّ العِبادِ بِعُجْبِهِ ** وَيَخْتَالُ كِبْراً نَاسِياً لِغَدَاةِ

غَدَاةَ يُوارَى فِي التُّرَابِ ويَغْتَدِي ** طَعَاماً لَدُودِ القَبْرِ والحَشَرَاتِ

وآخَرُ مَغْرُورٌ بكَثْرَةِ مَالِهِ ** وَمَا عِنْدَهُ فِي البَنْكِ مِنْ سَنَدَاتِ

يُفاخِرُ خَلْقَ اللهِ بالْجَاهِ والغِنَى ** وَبِالْمَالِ لاَ بِالفَضْلِ والحَسَنَاتِ

وَلَمْ يَدْرِ أَنَّ الْمَالَ فَانٍ وأَنَّهُ ** يَزُولُ كَسُحْبِ الصّيْفِ مُنْقَشِعَات

وَذَا شَاهِدٌ بِالزُّورِ إِنْ يَسْتَعِنْ بِهِ ** أَخُوْ شِقْوةٍ يَشْهَدْ بِكُلِّ ثَبَاتِ

وَلَمْ أَدْرِ مَاذَا قَدْ أَعَدَّ لِموْقِفٍ ** بِهِ يَقِفُ العَاصِيْ بِغَيْرِ حُمَاةِ

وَذَا آكِلٌ مَالَ اليَتِيْمِ وَلَمْ يَدَعْ ** لَهُ عِنْدَ رَدِّ الحَقِّ غَيْرَ فُتَاتِ

وَفِي بَطْنِهِ قَدْ أدْخَلَ النّارَ عَامِداً ** وَأَصْبَحَ مَحْرُوْماًً مِنَ النَّفَحَاتِ

وَذَلِكَ مُغْتابٌ وَهَذَا مُنَافِقٌ ** لِحِطَّتِهِ قَدْ عُدَّ فِي النّكِرَاتِ

وَهَذَا يَغُشُّ النَّاسَ فِي البَيْعِ والشِرَا ** وَأَرْبَاحُهُ مَنْزُوْعَةُ البَرَكَاتِ

وَهَذَا حَوَى كُلَّ الخَنَا وَصِفَاتُهُ ** مَعَ الخَلْقِ والخَلاَّقِ شَرُّ صِفَاتِ

وَكَمْ مُعْلِنٍ لِلْفِطْرِ وَالنَّاسُ صُوَّمُ ** يُجَاهِرُ فِي الإِفْطَارِ فِي الطُّرُقَاتِ

ولَيْسَ يُبَالِي بانْتِقَامِ إلَهِه ** وَتَعْذِيْبِهِ لِلأَنْفُسِ النَّجِسَاتِ

وَكَمْ مِنْ غَنِيٍّ مُسْتَطِيْعٍ تَرَاهُ لاَ ** يُبَادِرْ بِحَجِّ البَيْتِ قَبْلَ فَوَاتِ

فَيَسْعَى بِنَفْسٍ مِلْؤُهَا البِرُّ وَالتُّقَى ** لِتَلْبِيَةِ الرَّحْمَنِ فِي عَرَفَات

وَلَمْ أَرَ إِلاَّ النَّزْرَ فِيْهِمْ مُسارِعاً ** لإِحْيَاءِ دِيْنِ اللهِ بِالصَّلَوَاتِ

وَمَا الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ إِلاَّ وَسَائِلٌ ** عَلَى المُتّقِي تَسْتَنزْلُ الرَّحَمَاتِ

وَتَنْهَي عَنْ الفَحْشَاءِ والْمُنْكَرِ الَذي ** يَزُجُّ بِمَنْ يَأتْيِهِ فِي الكُرُبَاتِ

وَيَنْدُرُ أَنْ أَلْقَى غَنِيّاًً بِمَالِهِ ** يَجُودُ لِذِي جُوعٍ وَذَاتِ عُرَاةِ

فَمَا ائْتَمَرُوا بِالأمْرِ كَلا وَلاَ انْتَهَوْا ** عَنْ النَّهْي حَتَّى سَوَّدُوا الصَّفَحَاتِ

وَعَاثُوا فَسَاداً فِي الْبِلادِ فَأَصْبَحُوا ** بعِصْيَانِهِمْ فِي أسْفَلِ الدَّرَجَاتِ

خَلاَئِقُ يَأْبَاهَا الرَّشِيْدُ لِقُبْحِهَا ** وَلاَ يَرْتَضِيْهَا غَيْرُ أَحْمَقَ عَاتِي

ويُنْكِرُها ذُوْ العَقْلِ والرَّأْيِ والحِجَا ** ويَخْجَلُ مِنْهَا صَادِقُ العَزَمَاتِ

وَمَنْ يَتَّخِذْها مَنْهَجاً خَابَ سَعْيُهُ ** وَلاَ يَقْتَنِيْ مِنْهَا سِوَى الحَسَرَاتِ

إِذَا جَاءَ وَقْتُ الصَّيْفِ شَدَّ رِحَالَهُ ** إِلى الغَرْبِ يَلْهُوْ والشَّبَابُ مُوَاتِي

كأَنَّ بَنِي الإِسْلاَمِ فِي عَصْرِنا غَدَوْا ** لِهَدْمِ عُلاَ الإِسْلاَمِ شَرَّ دُعاة

فَتُوبُوا عِبَادَ اللهِ للهِ وَارْجِعُوا ** إِلَيْهِ تَنَالُوا مُنْتَهَى الرَّغَبَاتِ

وَلاَ تَقَرّبُوا مَا لاَ يَحِلُّ وأَبْعِدُوا ** نُفُوسَكُمُوا حَتَّى عَنْ الشُّبُهَاتِ

وأَدُّوا حُقوقَ اللهِ وارْعَوْا حُدودَهُ ** كَمَا يَنْبَغِي فِي الجَهْرِ والخَلَوَاتِ

وَلاَ تَهِنُوا يَوماً وَلاَ تَحْزَنُوا لِمَا ** يُصِيْبُكُمُوا فِي الحَقِّ مِنْ عَقَبَاتِ

تَفُوزُوا برِضْوانِ الإِلَهِ ولُطْفِهِ ** ويُغْدِقْ عَلَيْكُمْ أنْعُمَاً وهِبَاتِ

وَيَفْتَحْ لَكُمْ بَابَ القَبَولِ ويَسْتَجِبْ ** إِذَا مَا دَعَوْتُمْ صَالِحَ الدَّعَوَاتِ

وَيَجْعَلْ لَكُمْ فِي النَّسْلِ قُرَّةَ أعْيُنٍ ** وَيَرْزُقَكُمُ مِنْ أطْيَبِ الثَّمَرَاتِ

ويُمْدِدْكُمُ بالنَّصْرِ حَتَّى إِذَا طَغَى ** عَلَيْكُمُ عدُوٌ رَدَّهُ بِشَتَاتِ

فَمَا حَلَّ هَذَا الحَالُ إِلاَّ لِنَبْذِكُمْ ** تَعَالِيمَ دِيْنِ اللهِ نَبْذَ نَوَاةِ

وَمَا سَلَّطَ اللهُ الْعَدُوَّ عَلَيْكُمُ ** فَلَمْ يَبْقَ فِيْكُمْ غَيْرُ بَعْضِ رُفَاتِ

سِوَى بَعْدِكُمْ عَنْ دِيِنهِ ولأنّكُمْ ** قَنِعْتُمْ عَنْ الأعْمَالِ بالكَلِمَات

اللَّهُمَّ ثَبِّتْ وقو محبتك في قلوبنا واشرح صدرونا ونورها بنور الإِيمَان وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين وألهمنا ذكرك وشكرك وَاجْعَلْنَا ممن يفوز بالنظر إلى وجهك في جنات النَّعِيم يا حليم ويا كريم وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المسلمين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يا أرحم الراحمين وصلى الله على مُحَمَّد وعلي آله وصحبه أجمعين.

.فصل في مراتب الجهاد:

وَقَالَ ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ:
الجِهَادُ أرْبَعُ مَرَاتِبَ:
أحدُهَا: أنْ يُجاهِدَهَا عَلَى تَعَلُّمِ الهُدَي ودِينِ الحقِّ الّذِي لاَ فلاحَ لَها وَلاَ سَعادَةَ لَها فِي معَاشِهَا ومَعادِها إِلا بِهِ وَمَتى فَاتَها علمُهُ شَقِيَتْ فِي الدَّارَيْن.
الثَّانِيَة: أَنْ يُجاهِدَهَا عَلَى العَمَلِ بِهِ عِلْمِهِ وإِلاَّ فمُجَرَّدُ العِلْم بِلا عَمَلٍ إنْ لَمْ يَضُرَّها لَمْ يَنْفَعْهَا.
الثّالِثَةُ أنْ يُجاهِدَ عَلَى الدَّعْوَةِ إلَيْهِ وتَعْلِيمِهِ مَنْ لاَ يَعْلَمُهُ وإِِلاّ كَانَ مِنْ الّذينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ الهُدَي والبَيِّنَاتِ وَلاَ يَنْفَعُهُ علمُهُ وَلاَ يُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ اللهِ.
الرابعة: أن يجاهدها علي الصبر علي مشاق الدعوة إلى الله وأذى الخلق ويتحمل ذَلِكَ كله لله فإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من الربانيين فإن السَّلَف مجمعون علي العَالِم لا يستحق أن يسمي ربانياً حتى يعرف الحق ويعمل به ويعلمه.
فمن علم وعلَّمَ وعمل فذاك يدعي عظيماً في ملكوت السماء.
وأما جهاد الشيطان فمرتبتان: جهاده علي دفع ما يلقي إلى الْعَبْد من الشبهات والشكوك القادحة في الإِيمَان. الثَّانِيَة: جِهادُهُ عَلَى دَفْعِ ما يُلْقِيِه مِنَ الإِرَادَاتِ والشَّهَوَاتِ فَالجِهَادُ الأوّلُ يَكُوُن بَعْدَُ اليَقِينُ والثّاني بَعْدَهُ الصَّبْرُ قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} فأخْبَرَ أَنَّ إِمامَةَ الدِّيْنِ إِنَما تُنَالُ بِالصَّبْرِ واليَقِيْنَ فَالَّصْبُر يَدْفَعُ الشَّهَوَاتِ والإِرَادَاتِ واليَقِينُ يَدْفَعُ الشُّكُوكَ والشُّبُهَاتِ وأمّا جِهَادُ الكُفّارِ والمُنَافِقِيْنَ فأَرْبَعُ مَرَاتِبَ بالْقَلْبِ وَاللّسَانِ والْمَالِ وَالنَّفْسِ وَجِهَادُ الكُفّارِ أَخَصُّ باليَدِ وَجِهَادُ المُنَافِقِيْنَ أَخَصُّ باللّسَانِ وأما جِهَادُ أَرْبَابِ الظُّلْمِ والبِدَعِ والمُنْكَرَاتِ فَثَلاَثُ مَرَاتِبَ الأُولَى باليَدِ إِذَا قَدَرَ فَإِنْ عَجِزَ انْتَقَلَ إِلى اللّسَانِ فَإِنْ عَجَزَ جَاهَدَ بقَلْبِهِ فَهَذِهِ ثَلاَثَةَ عشْرَةَ مَرْتَبَةً مِنَ الجِهادِ وَمَنْ مَاتَ ولَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بالغَزْوِ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنَ النّفاقِ وَلاَ يَتِمُّ الجِهَادُ إِلاَ بالهِجْرَةِ وَلاَ الهِجْرَةُ والجِهادُ إِلاّ بالإِيمَانِ.
والراجون رحمة الله هم الَّذِينَ قاموا بهذه الثلاثة قال تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
وكما أن الإِيمَان فرض علي كُلّ أحد ففرض عَلَيْهِ هجرتان في كُلّ وَقْت هجرة إلى الله عَزَّ وَجَلَّ بالتَّوْحِيد والإخلاص والإنابة والتوكل والخوف والرجَاءَ والمحبة والتوبة وهجرة إلى رسوله بالمتابعة والانقياد لأمره والتصديق بخبره وتقديم أمره وخبره علي أمر غيره وخبره.
فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه.
وفرض عَلَيْهِ جهاد نَفْسه في ذات الله وجهاد شيطانه فهَذَا كله فرض عين لا ينوب فيه أحد عن أحد وأما جهاد الكفار والمنافقين فقَدْ يكتفي فيه ببعض الأمةِ إذا حصل مِنْهُمْ مقصود.
وأَكْمَلُ الخَلْقِ عَنْدَ اللهِ مَنْ أَكْمَلَ مَرَاتِبَ الجِهَادِ كُلّهَا، وَالخَلْقُ مُتَفاوِتُونَ فِي مَنَازِلِهِمْ عَنْدَ اللهِ تَفاوُتَهُمْ فِي مَرَاتِبِ الجِهَادِ وَلِهَذَا كَانَ أكْمَلُ الخَلْقِ وأكْرَمُهُمْ عَلَى اللهِ خَاتَمُ أنْبِيائِهِ وَرُسُلِهِ فَإِنّهُ كَمَّلَ مَرَاتِبَ الجِهَادِ وَجَاهَدَ فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ وَشَرَعَ فِي الجِهَادِ مِنْ حِيْنَ بُعِثَ إِلى أَنْ تَوَفَّاهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّهُ لَمَّا نَزَلَ عَلَيْهِ: {يَا أيها الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} شَمَّرَ عَنْ ساقِ الدَّعْوَةِ وَقامَ فِي ذَاتِ اللهِ أَتَمَّ قِيَامٍ وَدَعَا إِلى اللهِ لَيْلاً وَنَهَاراً وَسِرّاً وَجَهْراً فَلَمَّا نَزَلَ عَلَيْهِ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} صَدَعَ بأمْرِ اللهِ لاَ تأخُذُهُ فِيْهِ لَوْمَةُ لاَئِمٍ فَدَعَا إِلى اللهِ الصّغيرَ وَالكَبِيْرَ والحُرَّ والْعَبْدَ والذّكَرَ وَالأُنْثَى والأحْمَرَ والأسْوَدَ والجِنَّ والإِنْسَ.
ولما صدع بأمر الله وصرح لقومه بالدعوة وناداهم بسب آلهتهم وعيب دينهم اشتد أذاهم له ولمن استجاب له من أصحابه ونالوهم بأنواع الأذى وهذه سنة الله عَزَّ وَجَلَّ في خلقه كما قال تَعَالَى: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ} وَقَالَ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنسِ وَالْجِنِّ} وَقَالَ: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}.
فعزي سُبْحَانَهُ بذَلِكَ وأن له أسوةً بمن تقدمه من المرسلين وعزي أتباعه بقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ}.
لَعَمْرِيَ إِنَّ المَجْدَ وَالفَخْرَ وَالعُلاَ ** وَنَيْلَ الأمَانِيْ وَارْتفَاعَ المَرَاتِبِ

لِمَنْ قَامَ بِالدِّيْنِ الحَنَيِيْفيِّ صَادِقَاً ** وَجَاهَدَ أَهْلَ الشَّرِ مِنْ كُلِّ نَاكِب

وَِقَولِهِ: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ * مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَمَن جَاهَدَ فَإنما يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
{وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ * وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ}. فليتأمل الْعَبْد سياق هذه الآيات وما تضمنته من العبر وكنوز الحكم فإن النَّاس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين: إما أن يَقُولُ أحدهم آمنا، وإما أن لا يَقُولُ ذَلِكَ بل يستمر علي السيئات والكفر.
فمن قال آمنا. امتحنه ربه وابتلاه وفتنه والفتنة الابتلاء والاختبار ليتبين الصادق من الكاذب. ومن لم يقل آمنا فلا يحسب أنه يعجز الله ويفوته ويسبقه فإنه إنما يطوي المراحل في يديه.
وَكَيْفَ يَفِرُّ المَرْءُ عَنْهُ بِذَنْبِهِ ** إِذَا كَانَ يَطْوي فِي يَدَيْهِ المَرَاحِل

فمن آمن بالرسل وأطاعهم عاداه أعداؤهم وآذوه فابتلي بما يؤلمه، وإن لم يؤمن بِهُمْ ولم يطعهم عوقب في الدُّنْيَا والآخرة فحصل له ما يؤلمه وكَانَ هَذَا المؤلم أعظم وأدوم من ألم إتباعهم فلابد من حصول الألم لكل نفس آمنت أو رغبت عن الإِيمَان لكن المُؤْمِن يحصل له الألم لكل نفس آمنت أو رغبت عن الإِيمَان لكن المُؤْمِن يحصل له الألم في الدُّنْيَا ابتداء ثُمَّ يكون له العاقبة في الدُّنْيَا والآخرة والمعرض عن الإِيمَان يحصل له لذة ابتداء ثُمَّ يصير في الألم الدائم، وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين.